عودة إلى تعريف الديداكتيك
أو علم التدريس كعلم مستقل
د . محمد الدريج
تذكـيـر
ارتأينا العودة لتعريف الديداكتيك ( علم التدريس ) مجددا بعدما كنا قد ساهمنا في تعريفه ونحت اسمه، منذ سنة 1984 ،في مجلة "التدريس" (العدد السابع)، التي تصدرها كلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وذلك لعدة أسباب وفي مقدمتها ما أصبحنا نلاحظه من خلط في تحديد معناه ورسم حدوده وارتباطاته ومن التباس في استعمالاته ، الأمر الذي يسبب في الكثير من الأضرار، ليس فقط لدى الممارسين، بل لدى بعض الأساتذة الباحثين أنفسهم ولدى بعض المؤلفين و "الاستعجاليين " منهم على وجه الخصوص. مدخل لتعريف المصطلح
استعملت كلمة ديداكتيك didactique منذ مدة طويلة ، للدلالة على كل ما يرتبط بالتعليم ، من أنشطة تحدث في العادة داخل الأقسام وفي المدارس و تستهدف نقل المعلومات والمهارات من المدرس إلى التلاميذ... لكن ستعرف الكلمة الكثير من التطور وبالتالي الكثير من التعريف والذي يمكن حصره حاليا في اتجاهين رئيسيين:
اتجاه ينظر إليها باعتبارها تشمل النشاط الذي يزاوله المدرس، فتكون الديداكتيك بالتالي مجرد صفة ننعت بها ذلك النشاط التعليمي، الذي يحدث أساسا داخل حجرات الدرس والذي يمكن أن يستمد أصوله من البيداغوجيا .
و تستعمل كلمة الديداكتيك في نفس الاتجاه أيضا ،كمرادف للبيداغوجيا أو باعتبارها مجرد تطبيق أو فرع من فروعها ، بشكل عام ودون تحديد واضح.
والاتجاه الثاني ، هو الذي يجعل من الديداكتيك علما مستقلا من علوم التربية .
وقبل استعراض نماذج من تعاريف تندرج في هذين الاتجاهين ، سنعمل على توضيح الدلالة اللغوية للكلمة .
كلمة didactique في اللغات الأوربية مشتقة من Didaktikos وتعني "فلنتعلم ،أي يعلم بعضنا بعضا" والمشتقة أصلا من الكلمة الإغريقية didaskein ومعناها التعليم .
وقد استخدمت هذه الكلمة في التربية أول مرة كمرادف لفن التعليم، وقد استخدمها كومينوس أو كامينسكي (Kamensky أو Comenius) والذي يعد الأب الروحي للبيداغوجيا ، منذ سنة 1657 في كتابه "الديداكتيكا الكبرى" Didáctica Magna ، حيث يعرفها بالفن العام للتعليم في مختلف المواد التعليمية، ويضيف ، بأنها ليست فنا للتعليم فقط بل للتربية أيضا . إن كلمة ديداكتيك حسب كومينوس تدل على تبليغ وايصال المعارف لجميع الناس .
وعندنا لابد من الإشارة إلى أننا نجد في اللغة العربية عدة مصطلحات مقابلة للمصطلح الأجنبي الواحد، ولعل ذلك يرجع إلى تعدد مناهل الترجمة، من ذلك: تعدد المصطلحات المستقاة من الإنجليزية أم من الفرنسية ، وهما اللغتان اللتان يأخذ منهما الفكر العربي المعاصر، على تنوع خطاباته ، و منها مصطلح didactique الذي تقابله في اللغة العربية عدة ألفاظ : تعليمية ، تعليميات ، علم التدريس ،علم التعليم ،التدريسية، الديداكتيك ...
تتفاوت هذه المصطلحات في الاستعمال، ففي الوقت الذي اختار بعض الباحثين استعمال ديداكتيك تجنبا لأي لبس في مفهوم المصطلح، نجد باحثين آخرين يستعملون علم التدريس، وعلم التعليم، وباحثين آخرين قلائل ، يستعملون مصطلح تعليمية و تعليميات أو مصطلح تدريسية .
يقول حنفي بن عيسى 2003، كلمة تعليمية في اللغة العربية مصدر صناعي لكلمة تعليم ، وهذه الأخيرة مشتقة من علّم أي وضع علامة أو سمة من السمات للدلالة على الشيء دون إحضاره.
ولا بد من الإشارة إلى أن المصطلح الذي كان سائدا في كلية علوم التربية بالرباط وفي بعض مؤسسات التكوين التربوي مثل المدارس العليا للأساتذة ، للدلالة على الديداكتيك ، هو "التربية الخاصة"، في حين كانت تستعمل في مراكز تكوين المعلمين كلمة "منهجية" للدلالة على هذا التخصص. وكانت تتضمن البحث في المسائل التي يطرحها تعليم مختلف المواد الدراسية المقررة، ومن هنا التسمية تربية خاصة أي خاصة بتعليم المواد ا لدراسية، مثل التربية الخاصة بالرياضيات أو التربية ا لخاصة بالفلسفة، في مقابل التربية العامة أو البيداغوجيا والتي تهتم بمختلف القضايا التربوية في القسم بل وفي النظام التربوي برمته، مهما كانت المادة الملقنة.
المعنى الاصطلاحي
يمكن استعراض بعض التعاريف التي تندرج في الاتجاه الذي ينظر إلى الديداكتيك باعتبارها إما مجرد صفة ننعت بها النشاط التعليمي للمدرس أو مجرد شق من البيداغوجيا أو تطبيق لها ، على النحو التالي :
• يستعمل لفظ ديداكتيك ،حسب أسطولفي ((2001Astolfi,J.P ، كمرادف للبيداغوجيا ، بيد أنه إذا ما استبعدنا بعض الاستعمالات الأسلوبية، فإن اللفظ يوحي بمعاني أخرى تعبر عن مقاربة خاصة لمشكلات التعليم . فالديداكتيك لا تشكل حقلا معرفيا قائما بذاته أو فرعا لحقل معرفي ما ، كما لا تشكل أيضا مجموعة من الحقول المعرفية، إنها نهج، أو بمعنى أدق، أسلوب معين لتحليل الظواهر التعليمية.
• الديداكتيك هي، بالأساس، تفكير في المادة الدراسية بغية تدريسها، والذي يواجه نوعين من المشكلات: مشكلات تتعلق بالمادة ومحتواها وبنيتها ومنطقها، و تنشأ عن موضوعات علمية - ثقافية سابقة الوجود. ومشكلات ترتبط بالفرد في وضعية التعلم وهي من طبيعة سيكولوجية. فالديداكتيك إذن ، ليست حقلا معرفيا قائما بذاته، وذلك على الأقل في المرحلة الراهنة من تطورها حسب جاسمن (Jasmin, B. 1973)، وقد لا تكون مدعوة لأن تصبح حقلا معرفيا مستقلا، ومع ذلك، ليس ثمة شك في وجود مجال للنشاط خاص بتدريس مختلف المواد الدراسية. والذي يتطلب بحثا مستمرا قصد تحسين التواصل، وبالأخص، البحث في كيفية اكتساب المتعلم للمفاهيم..
• وكانت الديداكتيك حسب أبلي ( 1951Aebli Hans) وفي هذا السيق أيضا ،علما مساعدا فقط للبيداغوجية. حيث أسند إليها دور بناء الاستراتيجيات البيداغوجية المساعدة على بلوغ الأهداف. الديداكتيك إذن مادة تطبيقية ليس إلا ، موضوعها تحضير وتجريب استراتيجيات بيداغوجية تهدف إلى تسهيل إنجاز المشاريع ذات الطابع التعليمي .و يمكن للديداكتيك أن تكتسي خصائص العلم التطبيقي، باعتبارها تسعى إلى تحقيق هدف عملي والمتمثل في وضع استراتيجيات بيداغوجية.و لتحقيق هدفها تستعين الديداكتيك بعلوم السيكولوجيا، والسوسيولوجيا والابستمولوجيا ...الخ.
إذن لا تستقل الديداكتيك و لا تستقيم في مختلف هذه التعاريف ، بعيدا عن البيداغوجيا وخارج مظلتها.
هذا و إذا كان بعض التربويين ، وخاصة المتأثرين منهم بالأدبيات الفرنسية ، كما يتضح من خلال التعاريف السابقة ، لا يعتبرون الديداكتيك علما مستقلا ولا يفصلون وربما لحد الآن، بينها وبين البيداغوجيا ولا ينظرون إليها إلا باعتبارها تطبيقا أو شقا منها ، بسبب ما لديهم من خلط بين التربية والتعليم. فإننا أصبحنا نلاحظ ، مقابل ذلك، تزايد من يعتبر الديداكتيك علما مستقلا بموضوعه ونماذجه ونظرياته ومتميزا عن غيره من علوم التربية . ولهذا ستتضمن الديداكتيك بصفة أساسية ،منهجية التعليم وطريقته وليس المنهجية العامة للتربية .
وفيما يلي نماذج من هذا الاتجاه:
• الديداكتيك هي الدراسة العلمية لتنظيم وضعيات التعلم التي يعيشها المتعلم، لبلوغ هدف عقلي أو وجداني أو حسي حركي. وتتطلب الدراسة العلمية، كما نعلم، شروطا دقيقة منها بالأساس، الالتزام بالمنهج العلمي في طرح الإشكالية ووضع الفرضيات وصياغتها وتمحيصها للتأكد من صحتها عن طريق الاختبار والتجريب.ومن حيث الموضوع تنصب هذه الدراسة على الوضعيات التعلمية، التي يلعب فيها المتعلم (التلميذ) الدور الأساسي. بمعنى أن دور المدرس يتحدد في تسهيل عملية تعلم التلميذ بتصنيف المادة التعليمية تصنيفا يلائم حاجاته ، وتحديد الطريقة الملائمة لتعلمه، وتحضير الأدوات الضرورية والمساعدة على هذا التعلم. ويبدو أن هذه الاجراءات ليست بالعملية السهلة، إذ تتطلب الاستنجاد بمصادر معرفية مساعدة، كعلم النفس لمعرفة هذا التلميذ وحاجاته، والتربية لتحديد الطرق الملائمة. وينبغي أن يقود التنظيم المنهجي للعملية التعليمية -التعلمية ،إلى تحقيق أهداف تراعي شمولية السلوك الإنساني. أي أن نتائج التعلم ينبغي أن تتجلى على مستوى المعارف والقدرات التي يكتسبها المتعلم، وعلى مستوى المواقف الوجدانية، وكذلك على مستوى المهارات الحسية –الحركية، التي تتجلى مثلا في الفنون والرياضات . ( مدينة ريفيا2002 Medina Rivilla ( .
• وفي اجتهادنا الشخصي ، نقصد بالديداكتيك أو علم التدريس ، الدراسة العلمية لطرق التدريس وتقنياته ولأشكال تنظيم مواقف التعلم التي يخضع لها التلميذ في المؤسسة التعليمية ، قصد بلوغ الأهداف المسطرة مؤسسيا ، سواء على المستوى العقلي أو الوجداني أو الحسي – الحركي ، وتحقيق لديه ، المعارف و الكفايات والقدرات و الاتجاهات و القيم. إن الديداكتيك أو علم التدريس، يجعل بالتعريف، من ا لتدريس موضوعا له. فينصب اهتمامه على نشاط كل من المدرس والتلاميذ وتفاعلهم داخل القسم، وعلى مختلف المواقف التي تساعد على حصول التعلم . لذا يصير تحليل العملية التعليمية في طليعة انشغالاته. ويستهدف في جانبه النظري صياغة نماذج ونظريات تطبيقية – معيارية ، كما يعني في جانبه التطبيقي السعي للتوصل إلى حصيلة متنوعة من النتائج التي تساعد كلا من المدرس والمؤطر والمشرف التربوي وغيرهم ...على إدراك طبيعة عملهم والتبصر بالمشاكل التي تعترضهم ، مما ييسر سبل التغلب عليها ويسهل قيامهم بواجباتهم التربوية التعليمية على أحسن وجه. ( محمد الدريج ،2000، (2004 .
تطور مفهوم الديداكتيك
كلمة ديداكتيك اصطلاح قديم -جديد ، قديم حيث استخدم في الأدبيات التربوية منذ بداية القرن 17 ، وهو جديد بالنظر إلى الدلالات التي ما انفك يكتسبها حتى وقتنا الراهن.ومن خلال التعاريف التي وضعت له في البداية، كان معناه فن التدريس. ومنذ ذلك الوقت أصبح مصطلح الديداكتيك مرتبطا بالتعليم، دون تحديد دقيق لوظيفته (أحمد أوزي 2006).
واستمر مفهوم الديداكتيك كفن للتعليم إلى أواسط القرن 19 ، حيث وضع المربي الألماني هيربارت (.F Herbert -1841)، الأسس العلمية للديداكتيك كنظرية للتعليم. فهي نظرية تخص الانشطة المتعلقة بالتعليم فقط ، أي كل ما يقوم به المعلم من نشاط . فاهتم الهربرتيون بصورة أساسية بالأساليب الضرورية لتزويد المتعلمين بالمعارف، واعتبروا الوظيفة الأساسية للديداكتيك ، هي تحليل نشاطات المعلم في المدرسة.
وفي بداية القرن 20 ظهرت مدرسة التربية الحديثة مع جون ديوي(.Dewey J.1959) وغيره، والذي أكد على أهمية النشاط الحي والفعال للمتعلم في العملية التعليمية واعتبر الديداكتيك ، نظرية للتعلم لا للتعليم.
أما حديثا فقد تطورت الديداكتيك نحو بناء مفاهيمها ونماذجها الخاصة بفعل تطور البحوث الأساسية والعلمية. وبدأت تكتسب استقلالها عن هيمنة العلوم الأخرى.
وفي المغرب أنجزت العديد من الدراسات والبحوث ذات الطابع الديداكتيكي المهتم بالتفكير في المادة ومفاهيمها، وبناء استراتيجيات لتدريسها، معظمها انجز بكلية علوم التربية وبمؤسسات تكوين المدرسين (بنيامنة صالح1991، محمد فاتحي2004( .
- موضوع الديداكتيك أو علم التدريس ومجالاته
إن ما يميز علم التدريس عن علوم التربية الأخرى ، هو بالضبط موضوعه أي التدريس و الذي سنحاول بيان بعض جوانبه ومكوناته فيما يلي:
في البداية لابد من التذكير ببعض الادبيات التربوية والفرنسية منها على وجه الخصوص والتي ما زالت تخلط بين الديداكتيك والبيداغوجيا ،التي دأبت على تحديد موضوع الديداكتيك وتضييقه فيما يعرف بالمثلث الديداكتيكي والذي كان متجاوزا من طرف تعريفات اكثر اتساعا وشمولا كما نجد مع كوب koop ومنذ سنة 1967 ،وغيره كما سنرى في فقرات لاحقة.
إن المثلث الديداكتيكي حسب هوسيي Jean Houssaye يعني أنه من غير الممكن أن نتصور العملية التعليمية- التعلمية خارج المثلث الديداكتيكي أو البيداغوجي triangle didactique et / ou pédagogique. إنه مثلث متساوي الأضلاع ، أقطابه الثلاثة هي : الأستاذ و التلميذ و المادة الدراسية أي المعرفة. والعلاقة بين كل طرف و آخر علاقة تواصل و حوار . فالعلاقة بين الأستاذ و التلميذ علاقة بيداغوجية ، إذ أن المدرس الذي لا يمتلك أدنى قسط من الكفايات : الثقافية و الاستراتيجية و التواصلية لا يستطيع أن يجعل تلاميذه ينخرطون و يتماهون في الدرس . و نفس الشيء بالنسبة للتلاميذ . كما تحدث فليب ميريو PH. Meirieuعن المثلث البيداغوجي ، و ألح على ضرورة تجنب الوقوع في بعض الانزياحات والانزلاقات التي يتعرض لها المدرس خلال عمليتي التخطيط والإنجاز كأن يركز ، في هذا المثلث ، على المادة الدراسية فيسقط في الانزياح المقرراتي Dérive programmatique ، أو يركز على ذاته كمدرس وناقل للمعرفة و هذا ما يسمى بالانزياح الديميورجي dérive démiurgique أو يركز على التلميذ و يهمل الطرفين الآخرين و هذا ما يسمى بالانزياح السيكولوجي dérive psychologique .
لذلك يكون ما يسمونه بالتعاقد الديديكتيكي contrat didactiqueشرطا ضروريا لكل تواصل تربوي ناجح وفعال والذي يعرفونه بانه مجموع القواعد التي تكون القانون الذي يحكم العلاقات في الحقل البيداغوجي. و ينبغي للمدرس أن يتعاقد ضمنيا مع تلامذته . وذلك عن طريق تحديد المهام و الأدوار و الوظائف و الأعمال التي يجب أن يقوم بها كل طرف في علاقته مع الجماعة . فلا بد من تحديد واجبات و حقوق التلميذ وواجبات وحقوق المدرس ويجب أن يبنى هذا التعاقد الديداكتيكي على سلطة المدرس وقدرته على ضبط القسم . و هنا نميز بين سلطتين هما : أ – سلطة شخص ) أستاذا كان أم مديرا أم مشرفا ) ، متمكن من تخصصه مطلع على تخصصات الآخرين ، ضابط لآليات اشتغاله . و هذه سلطة مشروعة و غالبا ما يقبلها التلاميذ لأنها مبنية على سلطة معرفية و ليس على القمع و الاستبداد ؛ مبنية على الاقتناع. إن هذا النوع من السلطة يسهل عملية التواصل بين أفراد المجموعة داخل القسم الدراسي. ب – سلطة شخص غير متمكن من تخصصه ، غير مطلع على التخصصات التي تفيده ، غير ضابط لآليات اشتغاله ، و هذه سلطة غير مشروعة لا يقبلها التلاميذ لأنها مبنية على القمع . و هذا النوع يعوق عملية التواصل بين الأستاذ و التلاميذ
و ينبني العقد البيداغوجي/الديداكتيكي على المراحل التالية : (1) الإخبار، و يكون مشتركا بين المتعاقدين متعلقا بالبرامج و الأهداف و مدد الإنجاز و المعطيات المادية…
(2) الإلتزام، أي مساهمة كل طرف في التوقيع ولو بشكل ضمني ،على العقد و الالتزام ببنوده خلال إنجازه. (3) الضبط، و يتعلق الأمر بتدبير سير العمل و مراجعته من طرف المتعاقدين. (4) التقويم ، و هو مرحلة فحص مدى تحقق أهداف العقد.
لكن وفي سياق آخر يفصل بين الديداكتيك والبيداغوجيا ، ويتحدث عن الديداكتيك العامة أو علم التدريس ويعتبرونها علما مستقلا من علوم التربية ،كما هو شائع في الادبيات التربوية الاسبانوفونية والانجلوسكسونية ،نقول في هذا السياق تم تحديد موضوع الديداكتيك على النحو التالي :
يذكر كوب koop منذ سنة 1967، في محاولته لحصر موضوع علم التدريس ، إلى أنه تفرع حسب معظم الباحثين المتخصصين، إلى اتجاهين رئيسين:
1-علم التدريس كنظرية لمحتويات التدريس.
2-علم التدريس كنظرية لطرق التدريس.
وبناء على هذا الطرح سيكون علم التدريس هو" علم محتويات التدريس وطرقه". وبالفعل فإن عددا من التعاريف التي وضعت لهذا العلم ترتكز على جانب واحد من هذين الجانبين.وهذا بالضبط ما انتقده كوب الذي ينبه إلى خطأ اختزال علم التدريس في جانب واحد فقط، أي حصره في محتويات التدريس أو في طرقه.ويعتقد أنه يمكن إدماج المجالين في نظرة شمولية بحيث يتضمن علم التدريس الجوانب الأربعة التالية:
1-محتوى التعليم.
2-الطالب أثناء سيرورة التعليم.
3-المساعدة التي يؤديها المدرس لتسهيل التعلم والتحصيل.
4-ثم المدرسة كمجال حيوي.
وتشخص الخطاطة التالية اقتراح كوب حول موضوع علم التدريس (F.Koop 1984):
نلاحظ من الخطاطة إثبات بعض مكونات العملية التعليمية حسب كوب والتي تشكل موضوع الديداكتيك العامة أوعلم التدريس.
فهناك المدرس الذي يشكل قطبا أساسيا على ما يبدو، في العملية التعليمية، بحيث يتولى مهام التلقين ويعمل بإتباعه لطرق وأساليب معينة،على مساعدة التلاميذ لحصول المعرفة لديهم.والذين يمثلون الطرف الآخر في العملية باعتبارهم المستفيد الأول من النشاط التعليمي.كما أن هذا النشاط يتم بواسطة محتويات أي مضامين العلوم والمواد الدراسية.وكل ذلك يتم في بيئة خاصة وهي المدرسة والتي تشكل مجتمعا حيا له من المقومات ما يجعله يؤثر في التدريس ويطبع مختلف مكوناته بطابع خاص.
لكن لابأس أن نذكر بأن هذا التحديد لموضوع الديداكتيك العامة أو علم التدريس رغم أهميته – التاريخية على الأقل – وسبقه في منح هذا التخصص بعض ما يتميز به عن غيره من التخصصات، إلا أنه يظل ناقصا، لكونه يغفل على سبيل المثال الأهداف التربوية وغيرها مما سنشير إليه .
على أن ما ينبغي التنبيه إليه بخصوص تحديد موضوع هذا العلم ، هو أن كل نشاط تعليمي هو في الأساس تواصل وله بالتالي طبيعة علائقية .إن التقاء المدرسين والتلاميذ لتحصيل مضامين معرفية واستبطان اتجاهات وقيم وشحذ قدرات وكفايات، يتم دائما في إطار مجموعة القسم وفي أحضان المدرسة حيث تنتظم سلسلة من المواقف والعمليات حول التساؤلات التالية:
- ماذا يدرس ؟
- كيف يدرس ؟
- متى يدرس ؟
كما أن تلك المضامين هي في نهاية التحليل جملة السلوك الذي يكتسبه التلميذ ويلقنه المدرس، و يتشخص ويتحقق في نهاية المطاف، بفضل الغايات والأهداف التربوية ، أي:
- لماذا يدرس ؟
وبناء على هذه الإضافات يمكن تعديل الشكل السابق ليتسع لمحور الأهداف وليحدد المسار الدائري لتبادل التأثير والتأثر، ذلك المسار الذي أصبح يتم عبر الأهداف وليس عبر المحتويات والمواد الدراسية، فتتسع الخطاطة السابقة لتصير على النحو التالي:
إننا نعني "بالمسار الدائري لتبادل التأثير والتأثر" والذي تشخصه الأسهم ذات الحدين في هذه الخطاطة ، أنه يوجد في كل عملية تعليمية متغيران أساسيان" يتمثل المتغير الأول في نشاط التلميذ (المتعلم ) وهو التعلم والتحصيل.في حين يكمن الثاني في النشاط المتميز للمعلم والذي يعمل على تسهيل حصول التعلم بفضل التدريس.وكلاهما أي التدريس والتعلم، يتفاعلان عندما يتدخل متغير ثالث ألا وهو الهدف المرغوب فيه، ما دام السلوك الذي يتعب المدرس في ترسيخه يلائم مبدئيا ما يريده التلميذ (ومن خلاله المجتمع) أو ما يجب أن يتعلمه.فينشأ الهدف بالتالي كسبب وكمحرك لذلك الالتقاء والتفاعل وتبادل الأثر والتأثير بين المتغير الأول أي التعلم والمتغير الثاني أي التدريس.
إن علم التدريس أو الديداكتيك يبحث عن تفسير لهذا التفاعل و يسعى في الوقت ذاته إلى إنشاء معايير للتطبيق، معايير فعالة من أجل عقلنة وتنظيم نشاط كل من المدرس والتلميذ.على أن هذه العقلنة (التنظيم المحكم والمنطقي) تقتضي بدورها تنظيم ذلك النشاط عبر ثلاث مراحل أساسية:
1- البرمجة والتحضير.
2- الإنجاز بمعنى إجراءات تطبيق ما تمت برمجته استنادا على تقنيات ووسائل تربوية.
3- المراقبة أو التقويم، باعتباره عاملا من عوامل المردودية وتمحيص في الوقت ذاته، فعالية النشاط التعليمي.
انطلاقا من هذه الإشارات المركزة يمكن أن تتمدد الخطاطة من جديد ليتشخص موضوع علم التدريس ويتسع على النحو التالي: (محمد الدريج ، 1994).
اضغط هنا لمشاهدة الصورة بالحجك الطبيعي.
خطاطة تركيبية بموضوع الديداكتيك أوعلم التدريس ومجالاتها
حسب المنظور الذي يميز بينها وبين البيداغوجيا ويعتبرها علما مستقلا من علوم التربية
لابأس أن نذيل هذه الخطاطة ببعض الملاحظات الختامية والتي يمكن أن ترفع بعض اللبس وهي:
أن التعلم – رغم استئثاره بمربع داخل الجدول – لا يشكل موضوع علم التدريس بل موضوعا لعلم النفس التربوي، كما أسلفنا، أو سيكولوجية التعلم على وجه التحديد.ومع ذلك فإن النظريات التي تفسر ميكانيزمات حدوث التعلم وطبيعته لدى الكائن البشري تشكل مدخلا بل عنصرا مهما لولوج النموذج التدريسي، إنها بمعنى أوضح ، عناصر أساسية في تأسيس نظرية علمية حول التدريس ولكنها لا تشكل موضوعا لعلم التدريس.
ونفس الملاحظة تنطبق على المدرسة.إن الدراسات التي تهتم بالمدرسة حيث يتم التعلم، لا تندرج ضمن مجالات علم التدريس، بل تنتمي لما يعرف بسوسيولوجية التربية (علم اجتماع التربية)، لكنها تبقى مع ذلك ضرورية ومفيدة لكل نشاط تعليمي في مستوييه النظري والعملي.
فروع الديداكتيك
يعود إلحاحنا على التذكير بالديداكتيك كتخصص مستقل إلى عدة أسباب، لعل من أهمها مدى الاضطراب الذي يعرفه التأليف في هذا الميدان. إذ ما تزال تؤلف كتب وترد علينا أخرى من العالم العربي وغيره، في مواضيع هذا العلم دون أن تتضمن وعيا واضحا وصريحا باستقلاله’ أي دون أن تكون مدركة لحدود التخصص الذي تؤلف له. فنلاحظ أنها ما تزال حائرة مترددة بين مختلف فروع التربية، فمنها ما يتحدث عن أصول التدريس وطرقه، ومنها من يذكر التربية العملية أو التربية الخاصة أو التربية الميدانية أو التطبيقية وغيرها من الأسماء، مما يفقد هذا التخصص مصداقيته ويجعل مواضيعه مشتتة بين علوم التربية جميعها.هذا فضلا عن وجود العديد من الباحثين اللذين لم يتوقفوا لحد الآن عن الحديث عن التدريس باعتباره فنا، ولم يهتدوا أليه كعلم تطبيقي له قوانينه ويتطور حسب مبادئ ومناهج خاصة.
لذلك فإننا نعتقد أنه قد حان الوقت لإدراك حدود هذا العلم في انفصالها وفي تقاطعها مع بقية فروع التربية.
وحسب لوجندر Legendre R. في"القاموس المعاصر للتربية" ،يجب التميز في كل تعريف للديداكتيك، . بين ثلاثة مستويات:
*الديداكتيك العامة : وهي التي تسعى إلى تطبيق مبادئها وخلاصة نتائجها على مجموع المواد التعليمية وتنقسم إلى قسمين:القسم الأول يهتم بالوضعية التعليمية، حيث تقدم المعطيات القاعدية التي تعتبر أساسية لتخطيط كل موضوع وكل وسيلة تعليمية لمجموع التلاميذ ؛والقسم الثاني يهتم بالديداكتيك التي تدرس القوانين العامة للتدريس ، بغض النظر عن محتوى مختلف مواد التدريس.
*الديداكتيك الخاصة : وهي التي تهتم بتخطيط عملية التدريس في ارتباطها بمختلف المواد الدراسية. . 1988. Legendre.R) . (
وهكذا ينبغي أن نميز داخل هذا العلم على الأقل ، بين فرعين مختلفين ومتكاملين في آن واحد وهما:
علم التدريس العام (الديداكتيك العامة).
علم التدريس الخاص( الديداكتيك الخاصة).
"يقصد بعلم التدريس العام مجموع المعارف التعليمية القابلة للتطبيق في مختلف المواقف ولفائدة جميع التلاميذ".
في حين يقصد بعلم التدريس الخاص "الاهتمام بالنشاط التعليمي داخل القسم في ارتباطه بالمواد الدراسية، والاهتمام بالقضايا التربوية في علاقتها بهذه المادة أوبتلك.فنقول علم التدريس الخاص بالرياضيات وعلم ا لتدريس الخاص بالتاريخ...".والذي يسمى في الادبيات التربوية الفرنسية بديداكتيك المادة الدراسية: didactique de la discipline و يهدف إدراج المادة الدراسية ضمن اهتمامات الديداكتيك إلى ما يلي:
أولا: إبراز المنظور الديداكتيكي الجديد للمادة الدراسية. وهو منظور لا يقف عند حدود التصنيف السطحي للمادة، وإنما ينتقل إلى مستويات أكثر عمقا وأهمية.
ثانيـا: تغيير النظرة التي تعتبر أن المادة الدراسية معرفة مسبقة ونهائية معطاة لنا بهذا الشكل أو ذاك، ولا مجال لتغييرها أو استبدالها، رغم شعورنا بقصورها ومحدوديتها أمام الزحف الهائل من المعارف المتجددة في عصرنا. ويعتبر الشخص المختص عادة، في مادة من المواد ، هو المؤهل لتصنيفها وإدخال التعديلات الضرورية عليها. أي أن انتقاء وترتيب ما ينبغي تعلمه من طرف التلميذ من معارف لغوية إنما هو من شأن المختص في اللغة، وما ينبغي تعلمه في الرياضيات هو من شأن المختص فيها، وهكذا.
إن دراسة المادة التعليمية، التي هي موضوع الديداكتيك الخاصة. إنما تتم انطلاقا من بعدين:
- بعد ابستمولوجي يتعلق بالمادة في حد ذاتها، من حيث طبيعتها وبنيتها، ومنطقها ومناهج دراستها.
- بعد تربوي مرتبط بالأساس بتعليم هذه المادة وبمشاكل تعلمها.
لذا تعتبر الأسئلة التي تدور حول طبيعة المعرفة وحول نشاط الفرد المتعلم في مادة معينة أو في مجموعة من المواد، حول العمليات الاستنباطية والاستقرائية عند تهيئ معرفة معينة –تعتبر هذه الأسئلة مهمة جدا بالنسبة للديداكتيكي. لأن من واجبه أن يعيد التفكير في عمله، وأن يقوم بجرد للمكونات الحقيقية أو الممكنة التي هيأت لتكون مادته، وذلك لفهم معناها في الوقت الذي يشرع فيه في التأمل المنهجي حول عملية تبليغ هذه المادة.
ولا يمكن على هذا الأساس وفي إطار ديداكتيك المواد الدراسية أو ما كان يسمى خطأ التربية الخاصة بالمواد، تصور أي عمل ديداكتيكي دون أن يكون هذا العمل مرتبطا بمادة تعليمية معينة. وهذا لا يتعارض مع القول بالديداكتيك العامة التي نسعى إلى جعلها مجالا معرفيا مستقلا يهتم بدراسة العناصر المشتركة بين المواد الدراسية، من حيث تعلمها وتعليمها، وما يرتبط بذلك من مجالات وقضايا. لذا دعونا و منذ اواخر السبعينات إلى القيام ببحوث في الديداكتيك النظرية حول مواضيع مشتركة بين تدريس المواد الدراسية، تؤسس ما نسميه بعلم التدريس .)محمد الدريج ، 2004 .(
هذا ولا ينعدم إلى الآن ، من يرفض هذا التمييز بين الديداكتيك العامة والديداكتيك الخاصة ، بدعوى أن علم التدريس العام يمكن أن ينحل في نهاية المطاف ويتلاشى في علم التدريس الخاص.ولنا كمثال على هذا الرفض" قاموس المفاهيم الاساسية للديداكتيكات" الذي اشرف على انجازه ايف روتير Yves Reuter (2008) .والذي يرفض الحديث عن الديداكتيك العامة ويتحدث عن الديداكتيكات الخاصة والتي ترتبط بمختلف العلوم ومختلف المواد الدراسية السائدة في الأنظمة التعليمية .
لكننا نعتقد في ضرورة الفصل بينهما على النحو التالي:
إن علم التدريس العام يعالج القضايا المشتركة والإشكاليات العامة، أي يدرس العملية التعليمية في مجملها وبغض النظر عن المادة الدراسية المقررة.ويحاول وضع ا لفرضيات واستخلاص القوانين وصياغة النماذج التي يمكن أن تفيد المدرس مهما كان تخصصه ومهما كانت ا لمادة التي يدرسها.
إن التوجه الذي نلاحظ داخل كل تخصص(أي في كل مادة دراسية) نحو العناية الفائقة بمواضيع هذا التخصص و بإشكالياته وذلك على حساب مواضيع وإشكاليات غيره من التخصصات ، نقول إن هذا التوجه يتعارض مع أهداف علم التدريس العام والذي يهتم بكل ما يسعى إلى التكوين بشكل عام وإلى إدماج شخصية المتعلم في جميع أبعادها ومكوناتها.في حين يركز علم التدريس الخاص (ديداكتيكية المواد الدراسية) وفي إطار العملية التعليمية على المقتضيات الخاصة بكل مادة .
على أن هذا التمييز ينبغي ألا يحجب عنا ما بين علم التدريس و بقية علوم التربية من روابط.إنه يبقى،ومهما كان من أمر استقلاله، فرعا من فروع التربية وعلما من علومها.فلا يمكن أن ننظر إليه بالتالي بمعزل عن هذا السياق.إن التدريس الذي يشكل موضوعا لهذا العلم، الحديث نسبيا، لا يتم بمعزل عن هذا السياق، كما لا يمكن أن نجرده من دوره التربوي.
إن التدريس الذي يشكل موضوعا لهذا العلم، الحديث نسبيا، يتم في المدرسة والتي لا يقتصر دورها، كما هو معلوم، على التلقين ومساعدة التلاميذ على تحصيل ا لعلوم والفنون، بل إنها تطمح، بالإضافة إلى ذلك، إلى تربية شخصيتهم من جميع جوانبها وتعمل على تكوينهم جسميا ونفسيا وخلقيا، لتيسير اندماجهم في المجتمع.
ثم هناك مسألة أخرى يجب التنبيه إليها وتتعلق بالآثار المحتملة لهذا العلم على مواقفنا وفي ممارستنا.إن هذا العلم، وكغيره من العلوم التطبيقية، يؤسس نماذج و نظريات تعليمية تستدعي التطبيق. إن النماذج والنظريات التي يصوغها علماء التدريس ، هي من طبيعة تطبيقية ومعيارية لذلك يكون من الضروري إخضاعها للتمحيص والاختبار ، على أن تقاس نتائج التمحيص بمقياس الواقع.